تنبيه : لم أستطع الدخول حاليا باسم المستخدم القديم ، وسأستخدم هذا الاسم مؤقتا .
الحمد لله والصلاة والسلام على محمد بن عبدالله أمابعد :
فقد جرى لي قبل عامين أو أكثر حوار شريف مع رجل شريف ! له في الحديث وعلومه صولات وجولات ، وكتب في أصوله مقالات ومجلدات ، ونلت منه في ذاك الحوار دررا وإفادة ، وأزعجني منه فيه ماأزعجه من متأخري أهل فنه وزيادة ، فكتبت مقالا في حينه نعته ب ” منهج المتأخرين في التوحيد ” ، أذكر فيه هذا الفاضل وغيره أن يكون مع المتقدمين في كل ميدان ، وألا يجعل اشتراط العلم بالسماع في الحديث المعنعن أعظم ضررا من اشتراط العلم بالاعتقاد في الكفر الظاهر المعلن .
فأبى إلا السير على طريقة المتأخرين في هذا الباب إباه عن السير على طريقتهم في تلك الأبواب ، ورقم كتابا وسمه ب : ” الولاء والبراء ” عند المسلم ، ذكرني فيه بالقاضي عياض رحمه الله حين كتب كتابه : ” إكمال المعلم ” !
فأبيت وأنا أعرف صدق الشيخ حفظه الله وحرصه على الحق إلا أن أكتب ما أتشبه فيه به في تعليقه على مقول” القاضي” ، ومن تشبه بقوم فهو منهم!
فكان تقرير الشيخ في كتابه أعلاه هو مادة هذه المسألة من مسائل المتأخرين التي شابهوا فيها أهل الإرجاء ! وشابه في غيرها آخرون أهل َالخروج والمروق والافتراء .
المسألة السادسة : اشتراط محبة دين الكفار لتكفير معينهم على المسلمين :
فالمتأخرون – هداهم الله – زادوا شرطا في تكفير من أعان الكفار على المسلمين ، وهو المحبة القلبية لدين الكفار ، فجعلوا الإعانة على قسمين :
الأولى : إعانة مكفرة : وهي إعانتهم محبة لدينهم .
الثانية : إعانة غير مكفرة : وهي إعانتهم طلبا لدنياهم .
وهذا التقسيم ( المحدث ) للإعانة لايعلم قائل به من أهل العلم المتقدمين ، بل هو من( إبداعات) المتأخرين في استنباطاتهم من حديث حاطب رضي الله عنه .
وقد نقل الإجماع على كون الإعانة للكفار كفرا أكبر جماعة منهم :
ابن حزم رحمه الله في المحلى( 11/ 138).
وعبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن كمافي الدرر: (الدرر 8/326).
وغيرهما .
قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).
قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله كما في (الدرر 8 / 138) :
“فإذا كان من وعد المشركين في (السر) بالدخول معهم ونصرهم والخروج معهم إن جلوا نفاقاً وكفراً وإن كان كذباً ، فكيف بمن أظهر ذلك صادقاً؟” .
وقال سبحانه : (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُون) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في (الفتاوى 7 / 17) :
“فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف (لو) التي تقتضي مع انتفاء الشرط انتفاء المشروط ، فقال (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ) فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده ، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب” .
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله (الدرر 8/129) :
“فذكر تعالى أن موالاة الكفار منافية للإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه ، ثم أخبر أن سبب ذلك كون كثير منهم فاسقين ، ولم يفرق بين من خاف الدائرة ولم يخف ، وهكذا حال كثير من هؤلاء المرتدين قبل ردتهم كثير منهم فاسقون ، فجر ذلك إلى موالاة الكفار والردة عن الإسلام ، نعوذ بالله من ذلك” .
وقال ابن حزم رحمه الله كما في المحلى ( 12/126) :
” فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين , فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها : من وجوب القتل عليه , متى قدر عليه , ومن إباحة ماله , وانفساخ نكاحه , وغير ذلك “.
ثم قال :
” فإن كان هناك محاربا للمسلمين معينا للكفار بخدمة , أو كتابة : فهو كافر – وإن كان إنما يقيم هنالك لدنيا يصيبها ” .
وتأمل هنا معنى بديعا لاينبغي أنت تعرض عنه ! وهو أن ابن حزم رحمه الله لم يعذر هذا المعين للكفار وهو في بلادهم قد لحق بها مختارا ، وإن كان قد بقي في بلادهم لأجل الدنيا لا محبة في دينهم ، فهو قد جعل البقاء في بلادهم لأجل الدنيا كفر إذا كان قد جر إلى إعانتهم على المسلمين ولو بالكتابة ! ولم يذكر حكم تعمد إعانتهم لأجل الدنيا وهو مقيم في بلاد المسلمين ! لأن مثل هذا في مثل ذهن هذا الإمام في مثل عصره عزيز أو معدوم .
والحاصل أن الإعانة داخلة دخولا أوليا في التولي وهي من أظهر صوره .
والجواب عن الاستدلال بحديث علي رضي الله عنه في الصحيحين في قصة حاطب رضي الله عنه – اختصارا – من وجوه:
الأول :
أن حديث حاطب رضي الله عنه ليس نصا محكما يصلح أن يخصص عموم الأدلة السابقة وأن ترد لأجله نصوص أهل العلم ، بل هو مشتبه لايجوز أن ترد المحكمات لأجله ، والاستدلال بالمشتبهات في مقابل المحكمات من أصول أهل الأهواء .
الثاني :
أن حاطب رضي الله عنه لم يتحقق فيه وصف الإعانة ، ولم يرد حقيقتها بفعله ، وإنما أراد ( إيهام المشركين بالإعانة ) طلبا للدنيا مع حفظ الدين ، والإيهام بالإعانة ليست كفرا ظاهرا لايقبل فيه تأويل كماهو الحال في الإعانة .
والدليل على أنه إنما أراد الإيهام بالإعانة أنه قال كما في (الفتح 7/520) عن بعض أهل المغازي :
( أما بعد ، يا معشر قريش ، فإن رسول الله جاءكم بجيش كالليل ، يسير كالسيل ، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده ، فانظروا لأنفسكم والسلام)
فكتابه في حقيقة الأمر ( إعانة ) للمسلمين لا للكفار فهو تثبيط للكفار وإذهاب لريحهم .
الثالث :
أن حاطب رضي الله عنه كان متأولا في هذه الصورة الخفية من صور الإعانة ، ومثلها يصلح فيها التأويل ، فقد جاء في بعض ألفاظ الحديث :
” قد علمت أن الله مظهر رسوله ومتم له أمره”
فهو يرى أن فعله ليس فيه أدنى إعانة للكفار على المسلمين وأنهم لن يستفيدوا منه شيئا ، ومع هذا كان كبيرة من كبائر الذنوب ، وسلط الله عليه بعض أكابر الموحدين بذنبه هذا فكفره وقال عنه بأنه منافق فلم ينكر النبي صلى الله عليهوسلم على عمر هذا التكفير وإنما استفصل من حاطب عن السبب الحامل له على هذا لينظر أله فيما فعل تأويل أم لا ؟ وليتحقق من صورة فعله هل هي داخلة في الإعانة أم لا ؟.
وقد أخرج البخاري رحمه الله قصة حاطب في كتاب (استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم) في (باب ما جاء في المتأولين) .
و قال الحافظ في (الفتح 8 / 634) : “وعذر حاطب ما ذكره ، فإنه صنع ذلك متأولاً ألاّ ضرر في ذلك ) .
فوجه قبول التأويل هو أنه ظن ألا ضرر في ذلك على المسلمين ، فكيف لو علم يقينا أن فعله نافع للكفار فاتك بالمسلمين ؟!
وإن كان فعله اليسير هذا قد جر عليه اسم النفاق من بعض الصحابة وهو الصحابي البدري فكيف لا يسوغ إطلاقه على بعض أوباش العرب الذين لم نر وجوههم إلا إلى الكفار ؟!
وديدن المتأخرين – هداهم الله – هو قياس ضرب الوجه على القتل، وقياس القبلة على الزنا، وقياس فعل حاطب على ركوب الصعب والذلول مع النصارى على الموحدين ، وحكم الحاكم في مسألة -بغير حكم الله – لهوى على مسخ الشريعة وإحلال القوانين مكانها حكما بين المسلمين ،وحلف الفضول ومعاهدة يهود المدينة على التحاكم المستبين لرؤوس الكفر في الشرق والغرب ، وقياس إكراه فرد مسلم على قول كلمة كفر في حال سريع الزوال على إكراه جماعة عظيمة من المسلمين لهم شوكة ومنعة على هدم التوحيد وفتح وسائل الشرك في بلادهم لأن هذا من إكراه دولة لدولة وهو من النوازل ! والتاريخ لايرحم .
فإن قيل : إن التكفير شأنه خطير وهو يجر إلى كيت وكيت من المفاسد ( التي غالبها موهومة ) وهذه المسائل لايتكلم فيها إلا العلماء الكبار، فالجواب من وجوه :
الأول :
أن خطورة التكفير لاتعني تحريف أحكام اللطيف الخبير ، ففي السكوت عن الكلام – على التسليم بجوازه – سعة ، أما تبديل أحكام الدين باسم الخوف من الفتنة فليس من منهاج الهداة المهتدين .
على أن السكوت عن تبيين هذه المسألة منازع فيه ،فقد قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمه الله كما في الدرر ( 8/372) :
” وأكثرهم يرى السكوت عن كشف اللبس في هذه المسألة ، التي اغتر بها الجاهلون ، وضل بها الأكثرون ، وطريقة الكتاب والسنة وعلماء الأمة تخالف ما استحله هذا الصنف من السكوت ، والإعراض في هذه الفتنة العظيمة ، وإعمال ألسنتهم في الاعتراض على من غار لله ولكتابه ولدينه . فليكن منك يا أخي طريقة شرعية ، وسيرة مرضية ، في رد ما ورد من الشبه ، وكشف اللبس ، والتحذير من فتنة العساكر ، والنصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، وهذا لا يحصل مع السكوت ، وتسليك الحال على أي حال ، فاغتنم الفرصة ، وأكثر من القول في ذلك ، واغتنم أيام حياتك ، فعسى الله أن يحشرنا وإياك في زمرة عساكر السنة والقرآن ، والسابقين الأولين ، من أهل الصدق والإيمان”.
هذا مع أن الفتنة التي ينكر الشيخ على السكوت عليها هنا هي فتنة ( الاستعانة ) بالمشركين لا ( إعانتهم ) فهو يرى أن هذه الاستعانة التي وقعت في زمانه – على ضعف القول بجواز الاستعانة بالمشركين عنده – مع كونها بغير ضوابط هذا الجواز ، إلا أن صورتها ( استعانة ) وحقيقتها ( إعانة ) ! فهو لم يعتبر الادعاء الذي يراه بعض المفتونين من أنواع التأويل، بل نظر إلى حقيقة الأمر وإن خالف اسمه فقال قبل كلامه أعلاه بيسير :
” ومن قصر الواقع على الاستعانة بهم فمافهم القضية وماعرف المصيبة والرزية ، فيجب حماية عرض من قام لله وسعى في نصر دينه الذي شرعه وارتضاه وترك الالتفات على إلى زلاته ، والاعتراض على عباراته “.
فهذا كلام هذا العالم في فتنة صورتها استعانة وحقيقتها إعانة ، فكيف لو رأى فتنة صورتها إعانة وحقيقتها كسر لشوكة جميع المسلمين وإخضاعهم لاستعلاء الكفار المحاربين !
الوجه الثاني :
أن مصطلح : ” العلماء الكبار ” مصطلح حادث بمفهمومه المعاصر ، ف ( أل ) في العلماء هنا للعهد الذهني ، فهو مصطلح يراد به رجلان أو ثلاثة من علماء المسلمين الكبار لاجميع علمائهم الكبار .
ووجود الشوكة مع مجموعة من العلماء – وإن كانوا صادقين صالحين – لايوجب كونهم أهل الحل والعقد في بلد من البلاد فضلا عن الأمة كلها .
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن رحمه الله كما في الدرر : ( 10/ 399) ، معترضا على من زعم إجماع العلماء على جواز أمر أنكره :
: ” وأما دعوى هذا المبطل إجماع العلماء … فكذب ظاهر ، وشبهته أن هذه الأمور ظاهرة في جميع الأمصار ولم يسمعوا عالما أنكر ، فيقال : بل أنكر كثير من علماء هذا الزمان ، ووافق عليه خواص من علماء الحرمين واليمن ، وسمعنا منهم مشافهة ، ولكن الشوكة مع غيرهم ” .
وقد نشأ هذا المصطلح بهذا المفهوم في مقابل إعراض بعض المصلحين عن أهل العلم إعراضا كليا واستقلالهم بأنفسهم ودعوتهم دون رجوع لأهل العلم ولا رفع رأس برأيهم وخاصة أهل العلم الكبار الذين رسخوا في العلم وعركتهم الحياة ? فقام بعض طلبة العلم ليرد هذا الخطأ الناشئ عن التوسع في امتلاك حق الاجتهاد في مصير الأمة بخطأ ناشئ عن قصر الاجتهاد في مصير الأمة على رجلين أو ثلاثة من أهل العلم الكبار!!
الثالث :
أن أهل العلم مجمعون على أن من تبين خطؤه في العلميات أو العمليات لم يجز اتباعه ، وأصحاب هذا المصطلح يدعون الأمة كلها لتقليد هؤلاء الكبار تقليدا تاما في نوازل الأمة الكبار ولايسوغون اتباع غيرهم من الكبار وإن تبين خطأ أولئك الكبار ، بل ويعقدون الولاء والبراء على أقوالهم ويشنعون على من قال بغيرها وإن كان الدليل معه ، وهذا إن سلم في المسائل التي لايتبين وجه الصواب فيها ، فكيف يقال به فيما أجمع أهل العلم على خلافه ، وأي تبديل للدين وفتح لأبواب الشرك وذرائعه أعظم من هذا ؟!
الرابع :
أنهم قالوا عند اختلاف علماء الأمة الكبار ( وهم خمسة على الأكثر عندهم ) أن على المسلمين أن يتبعوا السواد الأعظم منهم ، ومقصودهم بالسواد الأعظم هنا ( الكثرة ) !
وهذا غير مسلم لا في أصله ولا في فرعه ، فالسواد الأعظم – لمجرد كونهم سوادا أعظم بمعنى الكثرة – ليسوا مناطا للاتباع بالاجماع .
والسواد الأعظم المقصود به أهل الحق لا أكثر الطوائف المختلفة في الحق ، وإلا فكيف يقال إن السواد الأعظم هو محمد بن أسلم الطوسي – كما جاء عن بعض السلف – وهو واحد ؟!
الخامس :
أن العلماء رحمهم الله قد أجمعوا على أن العالم لايتبع بزلته ، ولا يقلد ممن ظهر له بالأدلة بطلان نحلته ، وهؤلاء – هداهم الله – لاذكر لزلة العالم عندهم البتة ! بل ظاهر حالهم ومقالهم يدلك على قولهم بعصمة العلماء ، وهم من هذا الوجه فيهم شعبة ( تشيع ) وهي الغلو في اتباع العلماء كما هو حال الإمامية الغالية ، وهم وإن كانوا يدعون أنهم لايقولون بهذا وإنما يقولون بعصمة ( الإجماع ) لا أقوال الأفراد ، إلا أن تنزيل اسم الإجماع على بعض أقوال الأفراد بحجة أنهم هم ( الكبار ) لا أنهم من ( الكبار ) هو الذي جرهم إلى هذه الشعبة من شعب البدعة عافانا الله .
فالخلل دخل على هؤلاء من جهتين :
الأولى: أنهم قصروا علة ( الكبَر ) في أهل العلم الموجبة للاتباع في النوازل على بعض أفرادها وهي الشهرة الناتجة من أحد أسبابها وهي ( الشوكة ) .
الثانية : أنهم خلطوا بين النوازل التي لم يتبين وجه الصواب فيها بالنوازل التي علة الحكم فيها ظاهرة بالإجماع.
مع الأمر النفسي السابق وهو ردة الفعل الناتجة عن الخلل في بعض الإسلاميين المتعجلين .
وبقي مسألتان سأطرقهما إن شاء الله في القسم الثالث من معالم المنهج وهما :
المسألة السابعة : قصر التكفير في الحكم بما أنزل الله على المستحل فقط .
المسألة الثامنة : التوسع في عوارض الأهلية .
والله الموفق .
__________________
abo3@al-islam.com